نبذة عن المحاور الرئيسة للتوصية
بعد تعليم الطلبة استراتيجيات الاستيعاب القرائي ينبغي للمعلمين تعزيز استقلالية الطلبة في توظيف هذه الاستراتيجيات التي سبق لهم أن تدرّبوا عليها، بهدف فهم النصوص دون الاعتماد على توجيه المعلم المستمر، وذلك من خلال تشجيعهم على استخدامها وتقديم الدعم اللازم لهم، ونقل المسؤولية بشكل تدريجي من المعلم إلى الطالب، بحيث يتمكّن كل طالب من اختيار الاستراتيجية الأنسب وفق متطلبات النص والسياق الخاص به، ويصبح قادرًا على فهم النصوص بنفسه.
يتضمن هذا أن يتعلّم الطلبة أساليب مثل تدوين الملاحظات، وكيفية تحديد الكلمات الرئيسة في النص، واستخدام المنظّمات البصرية، بالإضافة إلى تعليمهم كيفية تلخيص النصوص وإعادة صياغتها، وبذلك يصبح الطلبة قادرين على تطوير مهاراتهم التحليلية والنقدية، وبناء قدرات فكرية تُعزّز قدرتهم على التعامل مع النصوص المختلفة.
سيناريو تأمّلي
أنت تقف الآن في صفك الهادئ، تتأمّل طلبتك وهم يقرؤون نصًّا جديدًا بأنفسهم. في بادئ الأمر يبدو القلق والتردد على وجوه بعض الطلبة، ينظرون إليك بحثًا عن المساعدة، لكنّك تعرف يقين المعرفة أنهم يمتلكون الأدوات التي عملت على تطويرها وتنميتها لديهم، ومع ذلك لا تتركهم وحدهم ولكنك في الوقت نفسه لا توجّههم مباشرة، بل توجّههم بشكل غير مباشر إلى الاستراتيجيات التي تعلموها والأدوات التي تمكّنوا منها، وتشجّعهم على توظيفها والاستفادة منها.
ثم تستغرق في التأمّل، ستلاحظ طالبًا وهو يتوقف عند إحدى الكلمات الصعبة، ولكنه يستخدم مفاتيح السياق لفهمها، وطالبًا آخر وهو يحدّد الكلمات الرئيسة في النص ثم يُعيد صياغته، ويلخّص الأفكار الواردة فيه، حينذاك ستشعر بالاطمئنان على طلبتك وأنت تراهم يستقلّون تدريجيًّا في رحلتهم في قراءة النصوص.
وأنت تراقب ذلك، ستتخيل أنك ترافق طلبتك إلى المكتبة وأنهم في هذه المرة قادرون على اختيار كتبهم الخاصة، يستغرقون في قراءتها، ويندفعون ليخبروا زملاءهم عن آخر كتابٍ قرؤوه. لم يعد هذا الحلم بعيدًا؛ ففي كل مرة اتّبعت فيها الانتقال التدريجي للمسؤولية وأنت تدربهم على استخدام الاستراتيجيات اللازمة لفهم النصوص واستيعابها، كنت تُعِدُّهم لهذه اللحظة. ثم تفتح عينيك وتتساءل: هل يمكن فعلًا أن يحدث هذا يومًا؟
تعليم الطلبة أساليب خاصة للفهم
من المتوقع أن لا يبقى الطلبة طوال حياتهم في المدرسة؛ لذا فالمعلم الحقيقي لا يكتفي بتعليم طلبته استراتيجيات الاستيعاب القرائي فحسب بل يعلّمهم كيفية استخدامها باستقلالية دون العودة إليه ودون توجيه من أحد، مهما كان نوع النص الذي يتعرّضون إليه. ينبغي للمعلم أن يُمكّن الطلبة من الاعتماد على أنفسهم في فهم النصوص واستيعابها، ولضمان تحقيق ذلك يجدر به أن يُعزّز بعض الأساليب التي تندرج تحت ما وراء المعرفة والتنظيم الذاتي لدى الطلبة بالإضافة إلى الاستراتيجيات التي تعلّموها سابقًا.
من المعروف أن القراءة تنقسم إلى نوعين رئيسين؛ هما القراءة الجهرية والقراءة الصامتة، وتبدأ رحلة تعلّم القراءة من القراءة الجهرية التي يقدر فيها الطلبة على فكّ الرموز وربطها بالأصوات المناسبة وتهجئتها لتشكيل كلمة ذات معنى، ولكنّ القراءة الجهرية وحدها غير كافية لمساعدة الطلبة على فهم النصوص، فهم بحاجة إلى نموذج يقتدون به عند قراءتهم، وهنا يأتي دور المعلم في تقديم هذا النموذج.
تُعدّ القراءة الجهرية على مسامع الطلبة أمرًا أساسيًا لتنمية مهارتي القراءة والكتابة، فمن خلالها يوفّر المعلم للطلبة نموذجًا للقراءة بطلاقة وبأداء معبّر، وعندما يستمع الطلبة إلى قراءة المعلم يطوّرون نمطًا جديدًا من فهم النصوص، مثل فهم الأساليب الإنشائية، وتشكيل الحبكة في النص، وكيفية البدء في قراءة النصوص والانتهاء منها؛ فالقراءة الجهرية للطلبة توضّح لهم العلاقة بين الكلمة والمعنى، وتجعل الأفكار المعقّدة أكثر سهولة للفهم، وتُعرِّض الأطفال إلى مفردات وأنماط لغوية جديدة، وهذا بدوره ينعكس على قدرتهم على فهم النصوص عند قراءتها بشكل مستقلّ.
وعندما يبدأ الطلبة بممارسة القراءة بشكل مستقلّ، فإنهم غالبًا ما سيبدأون بقراءة النصوص المدرسية قراءة صامتة، تساعدهم هذه القراءة على سرعة إدراك المعاني ودقة الفهم. في هذه الفترة ينبغي للمعلم توجيه الطلبة إلى توظيف بعض الممارسات التي تساعدهم على فهم النصوص بأنفسهم في أثناء القراءة مثل تدوين الملاحظات التي قد تأخذ شكل تسجيل الأفكار الرئيسة والمعلومات المهمة، بحيث يتعلّم الطلبة كيفية مراجعة ملاحظاتهم بسهولة، ما يُعزّز قدرتهم على استرجاع المعلومات وفهمها بشكل أعمق، أو من خلال تحديد الكلمات الرئيسة أو استخدام المنظمات البصرية مثل الخرائط الذهنية والجداول وغيرها التي تساعد على تنظيم الأفكار بشكل مرئي، وتساعدهم على فهم الروابط بين المعلومات أو الأحداث الواردة في النص.
كما يُنصح بتعليم الطلبة كيفية تلخيص النصوص وإعادة صياغتها، بحيث يتعلّمون كيف يحافظون على مضمون النص وأفكاره الأساسية بكلمات أقل، عن طريق وضع خط تحت العبارات أو الجمل التي تحوي الفكرة الرئيسة أو النقاط المهمة؛ ليسهل عليهم الرجوع إليها، وتقسيم النص إلى أجزاء إذا كان النص طويلًا؛ ليسهل التعامل معه، أو استخدام المنظمات البصرية والخرائط الذهنية لإعادة تنظيم الأفكار وترتيبها، ثم حذف التكرارات أو الأفكار المتشابهة والتقليل من التفاصيل، واستخدام أدوات ربط بسيطة ويسيرة، مثل: (و) بدلًا عن (بالإضافة إلى ذلك)، أو (ثم) بدلًا عن (بعد ذلك)، أو (لذلك) بدلًا عن (لهذا السبب).
بعد الانتهاء من التلخيص يقدّم المعلم التغذية الراجعة للطلبة، ويوجّه طلبته إلى مراجعة النص والتحقّق من أنه يحوي الأفكار والمعلومات الرئيسة فقط دون زيادة أو تكرار أو حشو.
لتعليم الطلبة استخدام أية استراتيجية من استراتيجيات الاستيعاب القرائي يمكن للمعلم أن يبدأ بنمذجة الاستراتيجية أمامهم، موضّحًا لهم كيفية تطبيقها خطوة بخطوة، ثم يبدأ تدريجيًا بتطبيق الاستراتيجية مع الطلبة عن طريق التمارين والأنشطة، ومع تقدم الطلبة وزيادة كفاءتهم في استخدامها ينسحب المعلم تدريجيًا ليُتيح لهم فرصة تطبيقها بشكل مستقلّ.
إنّ بناء قرّاء مستقلّين يتطلب تمكين الطلبة من مراقبة فهمهم، بحيث يصبحون قادرين على تمييز ما يفهمونه من النصوص وما لا يفهمونه، واستخدام استراتيجيات لحلّ المشكلات التي تعترض فهمهم للنصوص مثل إعادة قراءة النص مرة أخرى، أو البحث عن معاني الكلمات الصعبة، أو حتى طلب المساعدة من شخص آخر.
بالإضافة إلى ذلك، يستطيع المعلم تشجيع الطلبة على التفكير بوعي حول ما يقرؤونه من خلال استخدام استراتيجيات التفكير فوق المعرفي، مثل تحديد الغرض من القراءة قبل البدء بها، ومراقبة الفهم في أثناء القراءة. تساعد هذه الاستراتيجيات الطلبة على التحكّم بعملية القراءة وضبط سرعة القراءة وفقًا لصعوبة النص، كما تمكّنهم من اتخاذ قرارات حول الاستراتيجيات المناسبة لكل نوع من النصوص.
مع مرور الوقت ستلاحظ أن الطلبة لا يستخدمون الاستراتيجيات نفسها طوال الوقت، وغالبًا ما يلجؤون إلى تطوير الاستراتيجيات التي تعلّموها وممارستها بما يتناسب وفهمهم النصوص، وغالبًا ما ستكون لديهم مرونة عالية في استخدام الاستراتيجيات والتنقّل بينها في أثناء قراءتهم النصوص، وقد يستخدمون أكثر من استراتيجية واحدة لفهم نص محدّد.
ما نريد قوله في نهاية المطاف إنّ الطلبة سيصلون إلى مرحلة يصبحون فيها قادرين على السيطرة بوعي على استخدام استراتيجيات الاستيعاب القرائي؛ فَهُم يعرفون ماذا يجب أن يستخدموا ومتى، وهذا سينعكس على قدرتهم على فهم النصوص بشكل أفضل.
ومن خلال إتقان هذه الاستراتيجيات، سيصبح الطلبة أكثر استقلالية وثقة في قدرتهم على فهم النصوص في المستقبل، ما يفتح أمامهم آفاقًا جديدة من المعرفة والتعلّم الذاتي.
الخطوة القادمة: القراءة للحياة
والآن بعدما وصلنا إلى تلك اللحظة التي يقدر فيها الطلبة على فهم النصوص بأنفسهم، أطلق العنان لهم ليقرؤوا كل ما تقع عينهم عليه بدءًا من لافتات الشوارع والكتب التي توفّرها مكتبة المدرسة وصولًا إلى المكتبات العامّة. خصّص لهم وقتًا للقراءة الحرة، بحيث تُتاح لهم الفرصة لاختيار الكتب التي يرغبون في قراءتها، واخلق لهم مجتمعات قرّاء صغيرة، يتبادلون فيها آراءهم حول ما قرؤوه، ويتحدّثون فيها عن الكتب كأنهم يتحدثون عن برامج تلفازية شاهدوها.
افتح المجال لطلبتك ليستكشفوا عوالم جديدة، ويبحروا بسفينتهم، وينتقلوا من كتابٍ إلى آخر كما تحطّ الفراشة من زهرة إلى أخرى. كن قدوة لهم واقرأ أمامهم، دعهم يرونك تستمتع بالقراءة، وتسترق اللحظات التي يمكنك فيها أن تمارس هذه الهواية التي تحبها؛ فتقرأ وأنت تنتظر موعد حصّتك، أو تقرأ في وقت الاستراحة، أو غير ذلك، بحيث تصبح قدوة لهم بعيدًا من التصريحات المباشرة وتوجيه الطلبة نحو القراءة.
عندما يرى الطلبة معلّمهم يستلذّ بالقراءة، ويشعرون أن المدرسة تحتفي بالكتب الجديدة التي تصل إليها، ستُغرس في نفوسهم عادة القراءة، وسيقرؤون كلما سنحت لهم الفرصة، ولكن في هذه المرة ليس لغايات الدرس، ولا لتعلّم مهارة القراءة، وإنما لتصبح القراءة وسيلتهم للتعلّم.
تتيح القراءة للطلبة اكتساب معارف ومعلومات جديدة من خلال قراءة الكتب المعرفية أو القصص أو المسرحيات أو غيرها، وتُكسبهم مخزونًا لغويًّا كبيرًا فتتحسّن قدرتهم على التعبير عن أفكارهم محادثة وكتابة، ويمكنك ملاحظة الفرق بوضوح بين طالب قارئ وغير قارئ من قدرته على التعبير عن أفكاره؛ فغير القارئ مُقيّد بمفردات وعبارات محدودة قد لا تُسعفه معظم الأوقات في إيصال فكرته.
تساعد القراءة الطلبة على تحليل الأفكار وتقييمها، ما يعزّز قدرتهم على التفكير النقدي، فالطلبة القُرّاء يبحثون عن صحة المعلومات ودقتها، ويربطون ما قرؤوه بمعارفهم السابقة، ومن الصعب خداعهم؛ لأنهم يعرفون كيف يتحققون من صحة المعلومات التي تصل إليهم بخلاف غير القرّاء الذين يمكن خداعهم بسهولة لأنّ معرفتهم السابقة محدودة أيضًا.
عندما يقرأ الطلبة للتعلّم سيتعرّفون تجارب مختلفة ويعيشون حياة جديدة في كل قصة، ما يساعدهم على تطبيق ما يقرؤونه في واقعهم إذا ما مرّوا بمواقف مشابهة لمواقف الشخصيات التي قرؤوا عنها. القراءة تُحفّز الخيال، وتجعل الطلبة أكثر قدرة على التفكير خارج الصندوق، كما تجعلهم أكثر تقبّلًا للآخرين نتيجة تعرّفهم ثقافات تساعدهم على التعاطف مع الآخرين وفهم وجهات النظر المختلفة.
وأخيرًا، علينا أن لا نغفل أنّ القراءة وسيلة تُريح الأعصاب، وتُخفّف من ضغوط الحياة، وهي وسيلة للترفيه ترسخ من خلالها القيم، ويصبح لدينا جيل قائد لأنّه كان جيلًا قارئًا.